Sunday, June 13, 2010

الفيديو كليب هو فيلم سينمائي قصير يحتوى على أغنية، ورقص، وشئ يشبه التمثيلية. كنا نستمع في الماضي للأغنية فنتأمل في كلماتها ولحنها وصوت المغنى أو المغنية ثم نحكم عليها. وكانت معظم الأغنيات تتحدث عن الحب بين الرجل والمرأة (وبالعكس). ومع هذا كان هناك أنواع أخرى من الأغاني: فكان هناك أغنية أو اثنان تتحدث عن الأم، أو عن علاقة الأم بابنتها، أو عن الطبيعة؛ أى عن علاقات إنسانية خارج إطار موضوع الحب بين الرجل والمرأة، كما كان هناك أغان بالفصحى لبعض كبار الشعراء مثل شوقي، والأخطل الصغير، وإبراهيم ناجى. ومن أحسن الأغنيات التي أتذكرها في هذا المضمار أغنية "تسلم إيدين اللى اشترى" لعبد المطلب، وأغنية "الصباح الجديد" لعبد العزيز محمود، وهى من شعر أبي القاسم الشابي وتلحين مدحت عاصم، (ويبدو أن هذه الأغنية الرائعة قد فقدت حتى من أرشيف الإذاعة. ولعل أحد هواة التسجيلات القديمة عنده نسخة يرسلها للإذاعة لتحتفظ بها، وربما لإحيائها)، وأغنية أسمهان "ليالي الأنس فى فيينا"، وطبعًا لا يمكن أن ننسى بعض أغاني عبد الحليم حافظ مثل "لا تلمني". وهذا التنوع كان يوجد بشكل ملحوظ في أغاني فيروز، ولا يزال يسم أغنيات ماجدة الرومي. وإلى جانب هذا التنوع في الموضوعات، كان هناك تنوع في أشكال الأغنية، فكان هناك المونولوج الكوميدي (إسماعيل ياسين – ثريا حلمي)، وأغاني الديالوج التي اشتهر بها محمد فوزي، والأوبريتات (مجنون ليلى)، وأغاني الأفلام ("غزل البنات") وأغاني التمثيليات الإذاعية ("عوف الأصيل"). وبالطبع كان هناك الأغاني الوطنية التي كنا نسمعها طوال العام (وليس في يوم واحد في السنة لتذكرنا بما مضى!). كما كان هناك أغان دينية مثل أغنية فايدة كامل الشهيرة "إلهى ليس لي إلاك عونا"، وأغنية أسمهان "عليك صلاة الله وسلامه".

هذا التنوع اختفى تقريبًا تمامًا، فأغاني الفيديو كليب تنحصر فى النوع الأول، أي أغاني الحب بين الرجل والمرأة. ولكن يلاحظ أن "الفيديو كليب" لم يترك هذه الأغاني على حالها، ففي الماضي مثل هذه الأغاني كانت مبهمةومركبة ومتنوعة. انظر على سبيل المثال الأدوار القديمة مثل: "كادنى الهوى"، و"غزال تركي"، و"يا صلاة الزين"، وأغنية محمد قنديل "يا غاليين عليا يا أهل إسكندرية" أو أغنية عبد العزيز السيد "البيض الأمارة والسمر الحيارى"، وأغنية محمد العزبي "عيون بهية"، وأغنية محمد رشدي "قولوا لمأذون البلد ييجي يتمم فرحتي"، وأغنية نجاة الصغيرة "كلمني عن بكرة وابعد عن امبارح"، وأغاني ليلى مراد (بحب اتنين سوى- شفت منام واحترت أنا فيه- الحب جميل للي عايش فيه)، وأغاني محمد عبد الوهاب (جفنه علم الغزل – عاشق الروح – الخطايا) وأغاني عبد الحليم حافظ (سمراء – وأنا كل ما أجول التوبة يا بوي) وأغاني أسمهان (دخلت مرة الجنينة - يا طيور)، وأم كلثوم (ما دام تحب بتنكر ليه – الأطلال – حانة الأقدار).

ومثل معظم أغاني الحب بين الرجل والمرأة كانت معظم هذه الأغنيات تتضمن إيحاءات وإيماءات ورموز جنسية، أقول: "إيحاءات وإيماءات ورموزًا" وحسب، لأن البعد الجنسي كان دائمًا مستوعبا في أبعاد أخرى رومانسية وفى الصور المستخدمة أو في خلفية الأغنية (باستثناء بعض الأغنيات مثل "ما قال لى وقلت له، ومال لي وملت له" لفريد الأطرش والتي منع النحاس باشا رحمه الله إذاعتها).

كل هذا الإبهام والتركيب والتنوع اختفى تقريبا تماما؛ فالفيديو كليب يؤكد جانبًا واحدًا من الأغاني وهو الجانب الجنسي. فالراقصات لا يتركن أى مجال لخيال المشاهد، والصورة عادة أقوى من الكلمة، فالكلمة (المجردة) توجد مسافة بينها وبين المتلقي، الأمر الذي يسمح له أن يتأمل في معناها ويتمعن في مغزاها، أما الصورة (خاصة إذا كانت صورة حسناء نصف أو ربع عارية تقفز وتحرك كل ما يمكن تحريكه في جسدها بصورة غير موضوعية أو محايدة)، نقول إن الصورة حسية ومباشرة ولا تترك مجالا للعقل أن يتأمل، أو للجهاز العصبي أن يستريح قليلا، بل تقتحم الإنسان اقتحامًا. (هل يمكن أن تتصور أغنية مثل "كادني الهوى" أو "دخلت مرة الجنينة" وقد تحولت إلى فيديو كليب من النوع الجديد الراقص؟).

وبعد دراسة متأنية للفيديو كليب استغرقت ساعات طويلة لذيذة أمام التليفزيون أقلب من قناة راقصة إلى أخرى أكثر عريا، اكتشفت أنه مما يساعد الفيديو كليب على اقتحامنا ما أسميه "الرقص الأفقي"؛ فكلنا يعرف الرقص الرأسي، وألفناه، فقد شاهدناه في الأفلام وفى الفنادق الخمس نجوم والكباريهات التي بلا نجوم، ولكنه كان رقصا رأسيا دائمًا، أما الرقص الأفقي فهو مختلف تماما إذ تنام الراقصة/ المغنية على الأرض (وهى نصف أو ربع عارية ثم تحرك ما يمكن تحريكه في جسدها بصورة غير موضوعية أو محايدة) لأسباب لا تغيب عن بال أي مشاهد. هذا الرقص أكثر وقعا وتأثيرًا، وهو يدهشنا تماما، مما يجعلنا نستسلم لإغواء الصورة ونرفع الرايات البيضاء والخضراء والحمراء وكل الألوان الأخرى، إذ كيف يمكن للمشاهد أن يتفكر أمام هذه الصور الملونة بالألوان الطبيعية وغير الطبيعية لهذه الحسناء المتحركة الأفقية.

والرقص البلدي يهدف للإثارة الجنسية بشكل واضح وصريح، ولكننا كنا لا نراه إلا في الأفلام وفى الأفراح والليالي الملاح، فهو جزء من عالم "العوالم"، أي أننا كنا نعرفه بوصفه جزءًا من عالم مستقل عن عالمنا، قد نتمتع به وقد نرفضه، ولكن في كلتا الحالتين هو ليس جزءًا من عالمنا (حاولت سعاد حسنى في "خللي بالك من زوزو" أن توسع من الإمكانيات التعبيرية للرقص البلدي، إذ قدمت مرثية عالم أمها الراقصة التقليدية من خلال رقصة حزينة في حين كان شفيق جلال يغنى أغنية "لا تبكى يا عين على اللي فات ولا اللي قلبه حجر"). وفى تصوري أن هذه كانت المحاولة الأولى والأخيرة لفصل الرقص البلدي عن الإثارة الجنسية. وما تفعله الفيديو كليبات هو عكس ذلك تماما، وتحاول إنجازه من خلال عشرات الراقصات (الروسيات والمصريات والهنديات...إلخ) المتحركات! ولكن الأهم من كل هذا هو ما أسميه عملية تطبيع الرقص والإثارة؛ فالرقص يقدم في الفيديو كليب على أنه جزء من صميم حياتنا العادية اليومية. وبدل أن تذهب إلى الكباريهات جاءت هي إلينا. ولعل هذا ما حققه شريف صبري في أغنية روبي الأولى "إنت عارف ليه" حين ظهرت تسير في الشارع بشكل عادى جدًا ببدلة الرقص، ثم ظهرت بملابس عادية، واستمرت في نفس الرقص البلدي.

ولكن نلاحظ أن الرقص البلدي هنا ليس رقص المحترفات وإنما يشبه الرقص الذي ترقصه بنات الناس الطيبين في الاجتماعات العائلية، وبذا يتم هدم الحواجز بين حياتنا اليومية والرقص البلدي، ويتم تطبيعه تماما. (ولعله لهذا السبب فشل الفيديو كليب الأخير للوسي، فهو ينتمي لعالم الكباريهات الخالص).

ثم تم تعميق هذا الاتجاه في أغنية روبي الثانية "ليه بيداري كده"، فهي تظهر بملابس رياضية وبفستان سهرة وبملابس تشبه ملابس فتيات المدارس المراهقات ثم ملابس أرملة، ولكنها داخل كل هذه الملابس العادية تقوم بحركات أقل ما توصف به أنها غير عادية فهى حركات "كده". وحتى لا يتوه المعنى المقصود انظر إلى اللقطة الأخيرة في هذا الكليب. ويتم تأكيد هذا الاتجاه نحو التطبيع فى الجزء الأخير من "ليه بيداري كده" فهو عبارة عن هوم فيديو، أي فيديو عادي، منزلي، تظهر فيه روبي مرتدية ملابس عادية، وتذهب إلى الكوافير، عادى، بل ويظهر وجهها فى إحدى اللقطات في غاية البراءة (وليس "كده") وتبتسم وبراءة الأطفال فى عينيها (وإن لم يمنع الأمر أن تذكرنا بعالم الرقص في لقطة عابرة من الهوم فيديو). إن عملية التطبيع هذه تحول راقصة الفيديو كليب إلى جزء من حياتنا اليومية العادية، وربما قدوه يقتدي بها أو مثل أعلى يحتذي، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

وهنا سيطرح الكثيرون على هذا السؤال: لماذا تكتب عن هذه الأمور؟ والرد بسيط للغاية، وهو أن مثل هذه الأمور تؤثر في الملايين، وهى تبين مدى تغير إدراكنا لأنفسنا ولما حولنا، ولوظيفة العواطف والجسد والجنس (وهى أمور من صميم وجودنا الإنساني). أذكر أنني حينما عدت من الولايات المتحدة أوائل السبعينيات، كان أولادي يعرفون أقل من القليل عن الثقافة الشعبية المصرية بسبب نشأتهم في الولايات المتحدة. ثم فوجئت بابني الذي كان لا يزيد عمره عن أربع سنوات يغنى أغنية "يا واد يا تقيل" فقررت أن أعرف الحكاية حتى أعرف ماذا يحدث له، وماذا يحدث للمجتمع المصري ككل؟ وذهبت إلى فيلم "خلى بالك من زوزو" وشاهدته ومعي قلمي وأوراقي، وكتبت دراسة نشرتها جريدة الأهرام في حينها بعنوان "تأملات فى الواد التقيل والقلب الكاروهات" حيث أشرت إلى المنظر الذي تقول فيه سعاد حسنى:

"وما نيل المطالب بالتمني ولكن تُأخذ الدنيا كدهه"

أي أنها قررت أن تكون فاعلا لا متلقيا سلبيا.

ثم شاهدت بعد سنتين مسلسلا تليفزيونياً يسمى "مغامرات المعلم عماشة" فكتبت مقالا فى الطليعة بعنوان "بين أحزان فاتن حمامة وأفراح المعلم عماشة"، وقد بينت ساعتها أن أفلام فاتن حمامة كانت تميز تمييزًا واضحا بين فاتن حمامة (العذراء)، وميمي شكيب (الغانية). ولكن المسلسل السابق ذكره كسر الحواجز بين الاثنين، ففي إحدى المناظر يجلس المعلم عماشة بين صحفية وراقصة و"يعنبر" لهما (أي يقبلهما حسب لغة المسلسل) الواحدة بعد الأخرى. وهنا يمكن أن نتساءل: هل هناك متتالية حلقاتها مترابطة بدأت بالمعلم عماشة ثم وصلت إلى روبي وأخواتها؟ وهل هذه المتتالية حتمية، أم أننا يمكننا أن نفعل شيئًا ما لنوقفها عن التحقق إن أردنا ذلك؟ إن الثقافة الشعبية (والفيديو كليب من أهم أشكالها الآن) تؤثر فينا ولا يمكن أن تترك مثل هذه الأمور لمقاولي الفنانين دون دراسة أو تحليل.

وهنا قد يطرح على قارئ ماكر سؤالاً آخر، ألا "تتمتع" برؤية الفيديو كليبس؟ والرد هو نعم أتمتع به، ولعل القارئ قد لاحظ أن وصفى للراقصات لم يكن محايدًا أو موضوعياً، فقد أشرت بأنهن حسناوات رقيقات لذيذات يتحركن رأسياً وأفقياً بشكل مستمر يثير الدهشة ويدير الرأس (بما في ذلك رأسي بطبيعة الحال). ويمكن أن أتحدث عن الديكور والماكياج وما يرتدين (أو لا يرتدين) من ملابس. يمكن أن أتحدث عن كل هذا بعين خبير غير متخصص. ولكن هل القضية هي مدى ما يقدمه الفيديو كليب من متعة؟ ألا يتضمن السؤال تحيزًا واضحًا للمتعة الفردية وكأنها الهدف الوحيد من الحياة، وكأن حياة الإنسان لا يوجد فيها أبعاد أخرى، وكأن الفرد (ومقدار ما يحصل عليه من لذة من خلال المشاهدة) هو المرجعية الوحيدة والمطلقة. ولكن ماذا عن المجتمع والأسرة، أليس من المفروض أن تكون الوحدة التحليلية هي المجتمع وتوجهه ومصلحته، والأسرة وتماسكها، وليس الفرد ولذته ومتعته؟ وأليس من حقنا كبشر (والإنسان كائن اجتماعي بالدرجة الأولى) أن نطرح أسئلة أخرى تتناول جوانب أخرى من حياة البشر؟

وقد لاحظت أن كل من تناول ظاهرة الفيديو كليب قد ركز على ظاهرة العرى وعلى "كده"، وأنا بطبيعة الحال أتفق معهم في الرأي بخصوص العرى والإباحية، وبخصوص "كده". ولكنني أرى أن هذا يمثل جانبًا واحدًا من القضية، إذ يمكننا أن نسأل عن أثر الفيديو كليب على نسيج المجتمع وعلى بناء الأسرة؛ فالفيديو كليب لا يقدم مجرد أنثى تغنى وترقص وتتعرى وتتلوى بل إنه يعبر عن رؤية كاملة للحياة، نقطة انطلاقها -كما أسلفنا- هو الفرد الذي يبحث عن متعته مهما كان الثمن. والمتعة في حالة الفيديو كليب متعة أساسا جنسية ولذا فهي متعة بسيطة أحادية تستبعد عالم الموسيقى والطرب وجمال الطبيعة وكل العلاقات الإنسانية الأخرى. والفيديو كليب بتركيزه على هذا الجانب وحده يسهم في تصعيد السعار الجنسي (في مجتمع فيه أزمة زواج). ولكن من المعروف أن تصعيد السعار الجنسي مرتبط تماما بتصعيد الشهوات الاستهلاكية، وهذا ما أدركته تماما صناعة الإعلانات التليفزيونية، فمعظم الإعلانات تلجأ إلى الجنس لبيع السلع، فالسعار الجنسي يفصل الفرد عن مجتمعه وأسرته، وعن أي منظومة قيمية اجتماعية، فيحاول تحقيق ذاته من خلال منظومة المتعة الفردية والمنفعة الشخصية، والتي تترجم نفسها عادة إلى استهلاك السلع والمزيد من السلع (في مجتمع تعيش غالبيته إما تحت خط الفقر أو فوقه ببضعة سنتيمترات وجنيهات خاصة بعد ارتفاع سعر الدولار).

إن الفيديو كليب يختزل الأنثى (والإنسان ككل) إلى بعد واحد هو جسده، فيصبح الجسد هو المصدر الوحيد لهويته، وهى هوية ذات بعد واحد لا أبعاد لها ولا تنوع فيها (ومن هنا التكرار المميت في الفيديو كليبس، ولنقارن "كدهه" التى تقولها سعاد حسنى بـ"كده" التي تقولها روبي بجسدها؛ فكدهه التي قالتها سعاد حسنى كانت عبارة عن إعلان استقلال الفتاة المصرية ورفضها أن تكون كائنًا سلبيًا فى علاقتها بالرجل الذي تحبه، فزوزو لا تبكى ولا تنهزم حينما تقع في غرام البطل وإنما تهز رأسها بطريقة غزلة لعوب وتقول: "يا واد يا تقيل"، ثم تقرر اصطياده، وتنط كما الزمبلك من كنبة لكرسي لترابيزة وتغني أغنية الأنثى الجديدة - فتصف صاحبنا بأنه بارد كجراح بريطاني، هادئ "وراسي" وكأنه أمين شرطة أو دبلوماسي (وكلاهما صاحب سلطة ومكر ودهاء)، وهو متحفظ للغاية يرد بالقطارة فكأنه الرجل الغامض (الشخصية الروائية الأفرنكية غير الحقيقية)، ويسير كأنه تمثال رمسيس الثاني (الفرعون المغرم بالتماثيل الضخمة). والإشارات هنا تدل كلها على الذكورة والفحولة والضخامة والسيطرة، ولكن السياق والنبرة العامة للأغنية يدلان على أن الغرض من التضخيم ليس التفخيم وإنما فضح ادعاءات الرجل المصري عن نفسه، ولذلك فكل صور الفخامة تسبقها عبارات مثل "ما تقولشى" و"بسلامته" و"اسم الله"، وهى عبارات تشككنا فى جدية هذه الصور وتحول الذكر الضخم إلى طفل صغير تتلاعب به هذه الأنثى الحقيقية. وحينما يقف أبو شوارب ويعلن أن "الكون مش قد مقامه" وأنه "أطول واحد فى الحارة" نعرف أنه ضحية مؤامرة تشهير ضخمة وأن الفتاة الزمبلك قد نصبت له فخًا، وأوهمته أنه الصياد المفترس التقيل، وهو في واقع الأمر ليس سوى صيدة سهلة ولقمة سائغة، إنها تعلم أنه لا داعي للمقاومة فهو لن يغلبها رغم ضخامته الأسطورية ورغم ثقله التاريخي.

كل هذا يقف على طرف النقيض من "كده" في أغنية روبي، فهي إعلان أن الفتاة إن هي إلا جسد متحرك لذيذ، واللي ما يشترى يتفرج. إنها في نهاية الأمر مفعول به، رغم جاذبيتها الجنسية التي لا يمكن إنكارها! (لماذا لم تتحرك حركات تحرير المرأة لامتهان الأنثى بهذه الطريقة؟).

والإنسان الجسماني الاستهلاكي المنشغل بتحقيق متعته الشخصية يدور في دائرة ضيقة للغاية خارج أي منظومات قيمية اجتماعية أو أخلاقية، ولذا نجد أن ولاءاته للمجتمع وللأسرة تتآكل بالتدريج، كما أن انتماء مثل هذا الشخص لوطنه ضعيف للغاية إن لم يكن منعدمًا. والآن انظر لخلفية الفيديو كليب ستجد أنها لا أرض لها ولا وطن، فأحيانًا الخلفية هندية، وأحيانًا أخرى أمريكية، وثالثة أوربية، والبنات فى معظم الأحيان شقراوات، وحتى لو كن من بنات البلد فما يرتدينه (أو لا يرتدينه) من ملابس لا علاقة له بما نعرفه في حياتنا. كما أن أبطال الفيديو كليب عادة يركبون سيارات فارهة وأحيانا يظهرون في قصور، وكل هذا بطبيعة الحال يصعد الشهوة الاستهلاكية ويضعف الانتماء.

بعد كل هذه المقدمات يمكننا أن نضع الفيديو كليب في سياق أوسع، وهو سياق العولمة. فجوهر العولمة هو عملية تنميط العالم بحيث يصبح العالم بأسره وحدات متشابهة، هي في جوهرها وحدات اقتصادية تم ترشيدها، أي إخضاعها لقوانين مادية عامة؛ مثل قوانين العرض والطلب، والإنسان الذي يتحرك في هذه الوحدات هو إنسان اقتصادي جسماني لا يتسم بأي خصوصية، ليس له انتماء واضح، ذاكرته التاريخية قد تم محوها، وإلا لما أمكن فتح الحدود بحيث تتحرك السلع ورأس المال بلا حدود أو سدود أو قيود. فالخصوصيات الثقافية والأخلاقية تعوق مثل هذا الانفتاح العالمي. وفى غياب الانتماء والهوية والمنظومات القيمية والمرجعيات الأخلاقية والدينية تتساوى الأمور، ويصبح من الصعب التمييز بين الجميل والقبيح، وبين الخير والشر، وبين العدل والظلم وتسود النسبية المطلقة. وأهم تعبير أيديولوجي عن العولمة هو فلسفة ما بعد الحداثة التي يطلق عليها أيضا anti-foundationalism والتي يمكن ترجمتها حرفيا بعبارة "ضد الأساس" والتي يمكن ترجمتها بتصرف "رفض المرجعيات"، مما يعنى السقوط في اللاعقلانية الكاملة. وقد وصف رورتي ما بعد الحداثة أنها تعنى أن الإنسان لن يقدس شيئًا حتى ولا نفسه، فهي ليست معادية للدين والأخلاق وحسب، بل معادية للإنسان ذاته.

وقد يضيق القارئ بهذا "الكلام الكبير" وقد يتساءل: وما علاقة كل هذا بروبي والفيديو كليب؟ هل يمكن ربط جسد راقصات الفيديو كليبس بالنظام العالمي الجديد؟ والرد هو بالإيجاب، فكل الأمور مترابطة ليس بشكل مباشر وليس بشكل عضوي، ولكنها مترابطة. وقد شبه ليوتار الفيلسوف ما بعد الحداثي علاقة الإنسان بالواقع، بعلاقة الرجل الساذج (أو المشاهد الساذج) بالمرأة اللعوب: يظن أنه أمسك بها، ولكنها تفلت منه دائمًا، الأمر الذى يعنى أن علاقة العقل بالواقع غير قائمة. ويذهب كل من فريدريك نيتشه ورولان بارت وجاك دريدا إلى أن تحطيم المقولات العقلية واللغوية هي عملية ذات طابع جنسي: ذوبان وسيولة. بل إن بعض دعاة ما بعد الحداثة ورفض المرجعيات يرون أن جسد المرأة، هو مرجعية ذاته، ولذا فهو تحد للعالم الثابت الذي له مركز ويمكن إدراكه عقليا. وفى كتابها الشهير ضد التفسير (الذي يؤرخ لظهور ما بعد الحداثة بتاريخ نشره) قالت سوزان سونتاج إن أكبر تحد للثوابت والعقل هو الجسد. ولتلاحظ ما يحدث لعقلك وفهمك حينما تشاهد رقصة من النوع الأفقي، وهذا الجسد لا علاقة له بأي خصوصية تاريخية أو ثقافية أو اجتماعية، ولذا فهو يقوض الذاكرة الاجتماعية والتاريخية، وهذا هو جوهر ما بعد الحداثة أي أن كل إنسان يعيش داخل ما يسمونه قصته الصغرى أي رؤيته للعالم، أما القصة الكبرى الاجتماعية التاريخية التي تنضوي تحتها كل القصص الصغرى فلا وجود لها، فتتساقط القيم والمرجعيات وتظهر الراقصة الرأسية والأفقية، والشركات عابرة القارات التي تود أن يكون الإنسان حزمة نمطية من الرغبات الاقتصادية والجسمانية التي يمكن التنبؤ بسلوكها، حتى يمكن التحكم في صاحبها وتوظيفه داخل منظومة السوق (والكباريه). وقد ظهرت فضيحة الفيديو كليبات بعد استشهاد الشيخ أحمد ياسين، فبينما كانت الأمة بأسرها تعبر عن حزنها وعزمها وإصرارها، كان الرقص الرأسي والأفقي شغال على ودنه، وكأن جسد الراقصة هو البداية والنهاية، بداية المتعة ونهاية التاريخ.

إن القنوات الفضائية التي تذيع الفيديو كليبات تصل إلى منازلنا وأحلامنا وتعيد صياغة رؤانا وصورتنا للآخرين ولأنفسنا، ودافعها الوحيد هو الربح المادي، وليس الاستنارة أو تعميق إدراك الناس لما حولهم، فهي مشاريع رأسمالية طفيلية يبحث عن الربح الذي أدى إلى التنافس بين المخرجين والمغنين والممولين والذي لم تكن نتيجته الارتقاء بالمستوى الفني والجمالي، وإنما المزيد من الإسفاف والاغتراب والعرى الذي سيتزايد حتما مع الأيام، ومن يود أن يعرف إلى أين نحن ذاهبون عليه أن يرى محطة MTV وبعض الفيديو كليبات الأمريكية التى تحول الإنسان إلى ما أسميه البروتين الإنساني المحض. عليه أن يعرف أن هناك مقهى فى القاهرة (يسمى Evolution x أي "التطور في اتجاه غير معلوم") يقدم مشروبا يسمى Blue lesbian أي "المساحقة الزرقاء"، وهى محاولة لتطبيع الشذوذ، لا تختلف في جوهرها عن محاولة تطبيع الرقص والإثارة الجنسية وهذا أمر أقل ما يوصف به أنه مفزع.

والآن السؤال هو: هل من سبيل لوقف هذا التدهور المستمر؟ هنا قد يقول البعض إن فى هذا تدخل في حرية الفكر والفن، والرد على هذا أن الفيديو كليبات ليست فكرًا وليست فنا ولا إبداعا، وإنما هي شكل من أشكال البورنو الذي يهدف إلى استغلال الإنسان وتحقيق الربح. الفن العظيم يتناول موضوعات شتى من بينها الجنس، ولكن الجنس (مثل العنف) لا يقدم في حد ذاته وليس هو الهدف، وإنما هو عنصر ضمن عناصر إنسانية أخرى، فالفن العظيم (على عكس البورنو) لا يهدف إلى الإثارة الجنسية وإنما إلى تعميق فهمنا للنفس البشرية. وإن كان أصحاب الفيديو كليب يطرحونه باعتباره فكرًا أو فنا فعليهم الالتزام بشرطين: أولهما ألا يحققوا أي ربح مادي منه، وثانيهما أن يثبتوا لنا اقتناعهم الكامل بهذا الفكر بأن يمارسوه في حياتهم الشخصية مع زوجاتهم وأمهاتهم وبناتهم وأبنائهم، ولا أعتقد أن هناك من سيجد الشجاعة في نفسه أن يفعل ذلك.

والله أعلم.

1 comment:

  1. That makes complete sense!It sounds like a great book. Thanks for sharing.

    ReplyDelete